الأحد، 30 نوفمبر 2008

العلاقة الاولى هي الاساس

قام بولبي في عام 1969م بتعريف العلاقة الرابطة بين الطفل وأمه بما يسمى الترابط. وقد اعتبر بولبي أن سلوك تكوين العلاقات عند الناس هو سلوك غريزي ويهدف إلى تحديد درجة معينة من القرب أو البعد بين الطفل وأمه ، وتشكل هذه الرابطة نموذج لكل الروابط المستقبلية عند الطفل فهذا الرباط الخفي بين الطفل وأمه هو ما يجعل الطفل دائما حول أمه ويبكي إن بعدت عنه. وهذا الرباط يحافظ على سلامة الطفل كما يحقق له احتياجاته الأساسية من الطعام والشراب والأمن والاحترام الذاتي.
وينظم الطفل سلوكه مستخدما إشارات يستقبلها من أمه ومن ملاحظات عن الوضع العام فمثلا نجد الطفل في سن الثانية أو الثالثة يلعب في الحديقة وكل دقيقتين أو أكثر قليلا ينظر إلى أمه ليتأكد أنها مازالت هناك ويدرس ملامحها بسرعة ليتأكد أن الوضع ليس خطيرا عليه. وبعد أن يلعب قليلا يجري نحو أمه ويحضنها ويقبلها حتى يتأكد من أن العلاقة بينهما جيدة ثم يذهب بعيدا للعب. فإن سلوكيات عديدة للطفل تخدم تكوين العلاقة مع الأم والأب ومن يعتني به. فابتسامة الطفل البريئة تجذب إليها قلوب الكبار وتكون كمكافئة لهم على عملهم الطيب. وبكاء الطفل يعمل على إخبار الكبار حوله بحاجته إليهم. فبكاؤه كنداء لهم حتى يقتربوا إن كانوا بعيدين أو يبتعدوا إن كان الطفل لا يشعر بالأمان معهم . وعليه فإن سلوكيات الطفل الرضيع وحتى ما بعد ذلك تعمل على تنظيم العلاقة بالآخرين .
هذا وإن الطفل عندما يشعر بالأمان في علاقته مع من يعتنون به وخاصة الأم فإنه يمكنه الابتعاد عنهم للعب والاستكشاف وتكوين علاقات جديدة مع الأطفال. وعندما نقول يشعر بالأمان فإن لهذا الكلام معنى محدد. فإذا كانت الأم متواجدة لرعاية الطفل جسديا ونفسيا وكانت محبة ولها وعي وإحساس باحتياجات الطفل وتتعامل مع الطفل بتفهم ونظام. حيث يرى الطفل نفسه واحتياجاته فيها فكأنها مرآة له. عندما يكون جائعا يرى أنها تعلم بجوعه وعندما يكون خائفا فإنها تفهم خوفه وتفهم سببه حتى لو لم يكن بإمكانه التعبير عنه . وعندما ينظر إليها فإنه يرى في ابتسامتها وعينيها وتعبير وجهها حب له واحترام وحنان. عندها يشعر أنه إنسان له كيان ومحبوب وتزداد ثقته في نفسه ويتكون رأيه في نفسه بناءا على هذه العلاقة. فالطفل لا يعرف شيء عن نفسه وقيمتها ويتعلم من هو وقيمته من خلال أمه وأبيه ، فتتكون لديه صورة إيجابية عن نفسه وعمن حوله وعن العلاقات الانسانية. فيرى أن الناس الآخرين عقلاء ومحبين ويمكن الاعتماد عليهم وأسلوبهم في التعامل واضح. وطلباتهم محددة ويمكن تحقيقها. وحبهم له غير مشروط. يسمحون له باللعب والتجربة دون أن يهدد ذلك محبتهم له وهم متواجدون للرعاية والحماية وتقديم الدعم إن احتاج الأمر. عندها يشعر الطفل بالأمان في العلاقة ويستطيع أن يبتعد عن أمه وأبيه للعب والاستكشاف ويعود بين الحين والأخر لتجديد العلاقة وبناء المحبة وصيانتها ثم يذهب مرة أخرى لاكتشاف العالم .
أما إن كان الوالدين غير سويين نفسيا ومن النوع العنيف الذي يضرب الطفل ويذمه ويحط من قدره أو من النوع المهمل غير الواعي لاحتياجات الطفل أو من النوع الأناني الذي لا يفكر الا في احتياجاته ورغباته أو من النوع المدمن على الخمر أو المخدرات مما يؤدي إلى تغيرات جذرية في تصرفاتهم تحت تأثير المخدر أو الخمر فكل هؤلاء يجعلون الطفل لا يحصل على احتياجاته ويكونون مصدر اضطراب في حياته ومصدر عدم احترام لذاته وفقدانه للثقة في نفسه. فالطفل الصغير لا يمكنه تفسير التصرفات والتغيرات التي يراها في شخصية الأب المدمن. فكيف يمكن للأب الحنون أحيانا أن يأتي في المساء ويضرب أو يسب أو يعتدي على الطفل أو الأم أمام الطفل! لا يمكن لطفل صغير في سن ثلاث سنوات أو أربع أو خمس أن يفهم شيء عن الخمر أو المخدرات ، فهذا الوضع غير الطبيعي يخلق اضطراب في فهم الطفل وفكره ومشاعره وشخصيته ويلوم نفسه على أمور لا يمكن لعقله الصغير أن يستوعبها.
والأم الأنانية التي لا تهتم بشيء سوى شكلها أو عملها أو صديقاتها أو نومها هذه الأم تكون غير متواجدة لإشباع احتياجات الطفل فيشعر الطفل أن احتياجاته مهملة وأن العالم من حوله لا يفهمه مما يؤدي إلى إحساسه بالحزن والانطواء أو العدوانية ، وفي حالات كثيرة تكون هذه الأم ذات شخصية نرجسية تحب ذاتها بشكل كبير ولا ترى في الطفل سوى امتداد لذاتها كاليد أو القدم وأن هذا الطفل إما يكون مصدر فخر لها أو مصدر خزي. فهي تستخدم الطفل لإشباع رغباتها النرجسية كحبها لجلب الانتباه. فالطفل لابد أن يكون جميل الشكل حسن السلوك متفوق في المدرسة وفي كل الشيء وإلا كان مصدر خزي وعار لها ودليل على فشلها كأم ، فيشعر الطفل بضغط شديد عليه حتى يكون كامل من جميع الصفات ويشعر كما وأنه في مهمة عليه إنجازها في هذه الحياة وهي رفع رأس الأهل. عندها يفقد الطفل إحساسه باحتياجاته ومشاعره الذاتية ويصبح كالآلة يهدف إلى إسعاد والديه. وإن لم ينجح في شيء كان جزاؤه العقاب الجسدي أو النفسي ، وإن كان الطفل غير جميل المظهر فسوف يعاني الأمرين ، فأمه أو أبوه ذوي الثقة الهابطة في أنفسهم يحاولون كل جهدهم إخفاؤه عن العيون أو ذمه أو إلقاء اللوم عليه . ثلاثة أنواع من الأمهات أو الآباء تعتبر الأسوأ على الإطلاق :الوالدان ذوي الشخصية النرجسية الأنانية ، والوالدان المتسلطان العنيفان الديكتاتوريان ،والأب أو الأم المدمنان الغائبان المضطربان في شخصيتهما وسلوكهما . فالطفل تحت هؤلاء يكون فكرة مضطربة وسيئة عن العالم من حوله وعن العلاقات الإنسانية. وهذه الصورة تكون الأساس لتصور عن كل العلاقات المستقبلية .
وبناء عليه فإن هذه التجارب التي يمر بها الطفل تبني في داخله ومن خلال ذاكرته تصور مركزي في أعماق نفسه عن تواجد الآخرين ومدى حبهم له ومدى استحقاقه لهذا الحب، ويتعلم أساليب التعامل مع احتياجاته كما رأى والديه يتعاملان معها. ويكون تصور عن الأمن في عالمه ووجود الدعم الاجتماعي والأخلاق في المجتمع. فإن كان الوالدان يميلان للظلم نشأ الطفل وهو يشعر بالظلم وعدم الأمان وربما يكون لديه غضب شديد نحو كل من هم في موقع سلطة عليه في المستقبل ، حيث يحمل في داخله هذه الرؤيا السلبية نحو والديه إلى كل مواقف حياته. وهكذا فإن هذه العلاقة الأساسية بين الطفل وأمه أو أبيه يمكن أن تزيد أو تخفف من الضغوط النفسية في حياته ، فالضغط النفسي سيزيد عليه في حياته نتيجة علاقات غير مستقرة مع أهله كما أن عدم الثقة بالنفس الناشئة عن أسلوب سيء في التربية يحد من فرص الطفل في التكيف الصحي في ظروف الحياة. فالطفل غير الواثق من نفسه يميل إما للانطواء أو لمحاولات مهتزة لإثبات الذات بأساليب غير صحية. فمثلا قد يلجأ إلى التدخين أو إلى سلوكيات منحرفة لإثبات الذات ، كما أن الطفل الذي يعتقد أنه غير جدير بالحب أو الاحترام لا يجد ما يدفعه إلى النجاح في حياته ويرى أنه يستحق الفشل والإهانة ، وهكذا فإن أسلوب الوالدين في التربية يؤثر على الطفل بأشكال مختلفة فقد تجعله ضعيف نفسيا أمام مواجهة الحياة وتجعله يفكر عن العالم وعن الناس وعن نفسه بطرق تزيد من مشاكله وتجعله عرضة لمزيد من المتاعب والضغوط النفسية في الطفولة وفي مستقبله.


د. ماجد عشي

ليست هناك تعليقات: