كنت اسكن في مدينة صغيرة جميلة تبعد عن مدينة بوسطن حوالي اربعين دقيقة بالسيارة، وكنت انتهي من محاضراتي الساعة العاشرة والنصف ليلا حيث انني كنت ادرس موادا مسائية، وبعد انتهائي من المحاضرات ابدأ رحلة عودتي الى المنزل، جميع المحلات التجارية في مدينة بوسطن والمدن المحيطة بها تغلق حوالي السابعة مساء، وجميع المطاعم تغلق حوالي العاشرة مساء، وغالبية محطات البنزين تغلق حوالي الحادية عشرة مساء الا بعض المحطات والبقالات التي تعمل على مدار الساعة وهم قلة، غالبية الناس تنام حوالي الساعة التاسعة او العاشرة مساء، فدوام العمل هنا هو عموما بين الساعة التاسعة صباحا والخامسة عصرا، وهناك ساعة للغداء، فالناس تحتاج ان تنام حوالي الساعة العاشرة حتى يستيقظون من الساعة السادسة صباحا استعدادا للعمل والمدارس، ونتيجة هذه الظروف يكون طريق عودتي الليلي شبه خاويا، واضاءة الطرقات هنا خافتة واحيانا معدومة تماما والمسافة بين اعمدة الانارة بعيدة، وهناك اشجار كثيرة تظلل الطرقات وخصوصا عندما اكون في الجزء من الطريق الذي يعبر خلال المناطق الزراعية والحقول، فيكون الطريق مظلما ولا ارى شيئا سوى المنطقة التي يضيئها نور السيارة، والجو في بوسطن يغلب عليه الامطار والثلوج، ففي كثير من الاحيان يكون الجو ممطرا واحيانا بغزارة، مع وجود رعد وبرق متكرر وصواعق، ويضيئ البرق الطريق امامي احيانا وخصوصا عندما اكون اسير في طريق مظلم زراعي بلا اضاءة، وعادة احب ان امضي الوقت في هذا الطريق في صمت، دون راديو او موسيقى، لأنني اكون قد امضيت على الاقل خمس ساعات متواصلة في القاء المحاضرات واحب ان امضي هذا الوقت في هدوء، وبالطبع اذكر اناس احبهم،
وأجد في طريقي هذا دروسا وعبر، فالطريق يكون عادة مضاءا في بدايته ولكن بعد ذلك اخرج من المدينة وادخل في المناطق الزراعية المظلمة، ولعدة اميال اكون وحيدا في الطريق الزراعي، ولكن بعد فترة ادخل مدينة صغيرة اخرى، المحلات الصغيرة الجميلة منارة بانوار خافتة ولكنها كلها مغلقة، وبعد ذلك اعود الى الطريق المظلم، واحيانا يكون هناك مطر غزير في منطقة في الطريق ولكنه لا يكون موجودا في منطقة اخرى، هكذا هو جو هذه المنطقة، وانظر الى هذا الطريق على انه يمثل الحياة عموما، احيانا طريق الحياة يكون جميلا منارا مليئ بالحيوية والنشاط، واحيانا نمر بمراحل في حياتنا تكون مظلمة وممطرة ومليئة بالرعد البرق والصواعق ويكتنفها الغموض وعدم الوضوح، وفي هذه الفترة الصعبة لا يمكننا ان نرى ابعد من مسافة امتار في تلك الظلمات، ولكن ان استمرينا وصبرنا وعملنا ما نستطيع فان الظلمات ستنقشع وسنمر مرة اخرى بمرحلة فيها النور والجمال، من اجمل الحكم التي قرأت انه كان هناك ملكا، وطلب من حكماء مملكته ان يكتبوا شيئا على خاتمه، ان قرأه وهو سعيد بكى، وان قرأه وهو حزين سعد، وتنافسوا فيما بينهم الى ان استطاع احكمهم الوصول الى الجملة، فكتب: "ان حالك لن يدوم"، فكلما قرأ الملك تلك الجملة وهو حزين سعد، وكلما قرأها وهو سعيد حزن، اجد هذه الحكمة في طريقي، الحال لا يدوم، والطريق يتغير، والحياة وظروفها تتغير، ربما تكون اليوم الظروف ضدك، ولكن انتظر قليلا، فربما تتغير الاحوال وتصبح الظروف في صفك،
صعوبات الحياة هي كالمكبر الذي يظهر من انت، تخرج المكنون في نفسك من صفات، وربما تجهزك لما هو اهم، ولتحمل اعباء ومهام اكبر، انظروا في التاريخ وستجدون ان الصعوبات والمآسي التي مر بها بعض الناس كانت هي ذاتها ما جهزهم لتحمل مسؤوليات اكبر، واحيانا ساعدتهم على تكوين فهم للحياة وسعادة اعمق، الطريق قد يكون شاقا ومظلما احيانا، وموحشا ومخيفا ووحيدا احيانا، قد تعتقد ان الكل تخلوا عنك وان لا احد يحبك، وقد تعتقد ان كل الظروف ضدك، وقد تشعر باليأس والتعب وتقترب من الانهيار، ولكن فجأة تنكشف الغمامة وينقشع الظلام وتتغير الاحوال، دوام الحال من المحال، انتظر، وسر في الطريق، وتوكل على الله سبحانه،
في ظلام الطريق ربما يصعب البصر ولكن وقتها يكون دور البصيرة، وما اسعدك عندما تكتشف دور البصيرة،
د. ماجد عبدالعزيز عشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق