الاثنين، 29 ديسمبر 2008

الاعتذار


قبل بضع سنوات حضرت مؤتمرا في جامعة ماساسيوستش في مدينة بوسطن وكان المؤتمر كله مخصصا لموضوع الاعتذار، وشارك في المؤتمر علماء نفس واطباء ومحامون وسياسيون وعلماء تاريخ وبعض اهالي ضحايا الجريمة، وسوف اذكر هنا بعض الامور عن الاعتذار،

أولا: من منا لا يخطئ؟ كلنا نخطئ أحيانا وذلك طبيعي لاننا بشر، فالبشر محدود العلم، العلم بالماضي او الحاضر او المستقبل، العلم بنفسه او الاخرين، والانسان تحركه أحيانا امور تؤدي به الى الخطأ، فلابد أن نعرف اننا كلنا وبلا استثناء نخطئ احيانا، والشخص الذي يعتقد انه لم ولا ولن يخطئ اما انه مريض نفسيا او جاهل مغرور او لا يعرف معنى الخطأ، فمع الاسف كثيرون يعتقدون أنهم لم يخطؤا بحق أحد لانهم يرون سلوكهم فقط كردة فعل لتصرف الاخرين، فمثلا الزوج الذي يضرب زوجته قد لا يرى خطأه لأنه يعتقد أنها دفعته لذلك "بطول لسانها"، والزوجة التي تخون زوجها قد لا ترى خطأها لانها ترى أن زوجها دفعها لذلك باهماله لها وسوء معاملته، بمعنى أن كثير من الناس تجد مبررات لاعمالها ولذلك لا ترى خطأ ما تفعل ولا ترى مبررا للاعتذار، وينطبق ذلك أيضا على المؤسسات والدول، فكل انسان يبرر "شره بشر غيره"، بمعنى أن الانسان يفعل الشر ويبرره بشر غيره، وهنا يدور الطرفان في حلقة مفرغة، شر يقابله شر وتتطور الامور، ولكن كيف يمكن ان نكسر هذه الحلقة؟ الحل هو الاعتذار والصفح، وسوف اكتب عن الصفح لاحقا،



ثانيا: في كثير من الحالات كل ما يريده الشخص الذي اخطئ في حقه هو ان يقدم المخطئ اعتذارا صادقا عن الخطأ، فكثير من المشاكل يمكن انهائها او حلها بتقديم اعتذار صادق، وينطبق ذلك على علاقات الاشخاص والمؤسسات والدول، ولكن بالطبع عناك عقبات أمام تقديم الاعتذار الصادق، فأحيانا يخاف الشخص من الملاحقة القانونية ان اعترف بجريمة مثلا، فمثلا قد تكون هناك عواقب ان اعترف الموظف بتقاضيه رشوة او اعترف الزوج بخيانته، فالاعتذار يتضمن الاعتراف بالخطأ، واحيانا تعوق الكرامة تقديم الاعتذار، فالاعتذار قد يضع المعتذر في موقف ضعف، وخصوصا ان كان الاعتذار امام الناس او لشخص يعتبر خصما،

ثالثا: الاعتذار مهم وله معاني كثيرة، الاعتذار هو اولا اعتراف بالم الشخص الاخر، فعندما تقول "أنا اسف اني جرحت مشاعرك" فانت تقول انك ترى جرح الشخص الاخر، لا شيئ يؤلم اكثر من ان تكون مجروحا ويتصرف الذي جرحك وكأنه لم يفعل شيئ "ويعمل نفسه مو فاهم"، فالاعتذار هو اعتراف بانك ترى الم الشخص الاخر وان المه ليس وهما وانما حقيقة،

وعندما تقول "انا اسف" فانت ايضا تتحمل المسؤولية، مسؤولية عملك ومسؤولية الجرح الذي تسببت فيه، فانت تقول للشخص المجروح: "انا ارى المك، وسببه هو تصرفي، فالمك له سبب، وانا سببه، تصرفي سبب لك الالم، ومعك حق، فانا من جرحك"، الناس تلعب الاعيب احيانا للهروب من تحمل مسؤولية اخطائها، ومنها التبرير ومحاولة "التعامي" عن الم الاخرين، وفي الحقيقة هم يرون ويفهمون كل شيئ، ولكنهم في اغلب الاحيان يتهربون من مواجهة اخطائهم،

وعندما تقول "انا اسف اني جرحتك، او ظلمتك، او كذبت عليك...." فانت ايضا تعترف بان هناك مظلة اخلاقية مشتركة يخضع لها الناس، فانت تقول باعتذارك انك تعترف بان سلوكك خالف مبادئ اخلاقية مشتركة وانك ترغب في العودة تحت "المظلة الاخلاقية"، وهذا مهم حتى يعرف الشخص الاخر انك فهمت خطئك، وانك ستغير سلوكك ليتماشى مع الاخلاق المشتركة، وهذا ايضا مهم لبناء الثقة، فمع الاسف الكثير من الناس لا يعرفون معنى الثقة واهميته في حياة الناس والمجتمعات، فتصرفاتهم تهدم ثقة الناس بهم وبالاخرين، وان نظرت الى أي سلوك خاطئ ستجد انه يهدم الثقة، فمثلا التاجر الغشاش والموظف المرتشي والزوج الخائن كلهم يهدمون ثقة الاخرين بتصرفاتهم، طبعا هم يبذلون كل الجهد حتى لا "ينكشفوا"، ولكن سواء انكشفوا او لا فان سلوكهم خيانة للثقة، وان فقد الناس الثقة بعضهم في بعض شعروا بعدم الامان، وانتشر الخوف والقلق وحتى الغضب، فالناس تصبح لا تعرف ماذا يمكنها ان تتوقع من الاخرين، ويختفي الصدق من المجتمع، ويلبس الناس اقنعة لاخفاء حقيقتهم، الثقة شيئ غالي جدا، ولابد ان يقدره الانسان، وكما قلت سابقا كلنا بشر ونخطئ ولكن لا بد من الاسراع في الاعتذار والعودة عن الخطأ ومعالجة اثاره، فالاعتذار هو عودة الى المظلة الاخلاقية المشتركة في المجتمع،

وعندما تقول "انا اسف" فانك بذلك ترد للشخص الاخر القدرة في التحكم في الامور، فانت عندما اخطأت فانك اخذت من الشخص الاخر مالا تستحق، وهذا هو اساس كل الاخطاء تقريبا، الاخذ، او بمعنى اخر السرقة، فكل الاخطاء هي في حقيقتها سرقة باشكال مختلفة، فمثلا الشخص الذي يأتي امامك بسيارته و "يقطع عليك الطريق" هو لص، سرق منك حقك في الطريق الذي انت فيه، ، فالسرقة هي تقريبا في كل الاخطاء، فانت عندما تعتذر فانك ترد ما اخذت، ولكن ما الذي سرقت عندما اخطأت؟ طبعا قد تكون اخذت مالا او شيئ اخر، ولكنك باعتذارك ترد شيئ اخر سرقته، ترد للشخص الاخر كرامته، ترد له الحقيقة، ترد له احساسه بالثقة ويالامان، ترد له احساسه "بأن الدنيا لسه بخير"، ترد له احساسه بالعدل، وحتى ترد له ايمانه بالله الذي قد تكون اثرت فيه بسلوكك، طبعا يعتمد الموضوع على حجم الخطأ الذي ارتكبته،

من الامور المهمة ان نعرف ان للانسان كرامة يجب الا تهدر، فللطفل كرامة يجب الا تهدر بالضرب والاهانة، وللزوجة كرامة يجب الا تهدر، وللزوج كرامة يجب الا تهدر، وللوالدين كرامة يجب الا تهدر، وللاخ والاخت كرامة يجب الا تهدر، وللمراجع كرامة يجب الا تهدر، وللمريض كرامة يجب الا تهدر، ولكل الناس كرامة يجب الا تهدر، الكرامة لا تأتي فقط من الانتصارات العسكرية، ولكن تأتي من المعاملات اليومية في البيت والعمل والشارع، والانسان الذي يعرف معنى الكرامة يتصرف بطريقة تحترم كرامة الاخرين، ولكن مع الاسف هناك اناس لا يعرفون معنى الكرامة،

والاعتذار يرد الحقيقة للمجروح، ففي كثير من الاحيان كل ما يريده الانسان هو الحقيقة، لماذا فعلت ذلك؟ هل انت تحبني ام لا؟ ماذا كنت تفكر عندما فعلت ما فعلت؟ هل هناك من "سلطك"؟ في جنوب أفريقيا وبعد الحرب الاهلية بين البيض والسود، قام بعض المصلحين بتنظيم اسلوب جديد للتسامح، وفيه يأتي الشخص الذي قتل او اعتدى ويعترف بكامل الحقيقة امام الضحية او اهله ويجيب عن كل اسئلتهم ويستمع بالكامل الى المهم ونتائج عمله، وفي مقابل ذلك يصفح عنه، فلابد ان يكون الاعتذار مصحوبا بقول الحقيقة والاجابة على كل اسئلة المعتذر له،

كثير من الناس مؤمنة بالله، وعندها ثقة بالله وانها تحت رعايته وعندها امل في الله وعدله ورحمته وعونه، وانت عندما تكذب وتغش وتسرق وتعتدي وتخادع فانك "تختبر" العدل الانساني والعدل الرباني، وتهز ثقة الناس في هذا العدل، وفي رأيي الشخصي ان هناك اخطاء كبيرة جدا وقد لا يراها الكثيرون كذلك، فمثلا الموظف المماطل في المعاملات خطره على أمن الدولة مثل خطر الارهابي، بل هو معين للارهاب، فهو ينشر الغضب بين الناس والاحباط والخوف وعدم الثقة في اجهزة الدولة على الرغم من المجهودات الكبيرة التي تبذلها لخدمة مواطنيها، وقد يرمي بسلوكه هذا ببعض الناس في احضان الاجرام والارهاب، ففي رأيي ان هذا الموظف المماطل او المرتشي هو عدو للدولة سواء كان ذلك بعلمه او لا، تخيلوا لو كان المواطنين يذهبون الى الدوائر الحكومية ويجدون معاملاتهم تتم بيسر ونظام واحترام فماذا سيكون رأيهم ومشاعرهم نحو حكوماتهم؟ الن يحبوها ويحترموها ويدينون بالولاء لها؟ اذن هذا الموظف المرتشي والمماطل هو عدو للدولة، ويسعى بقصد او عدم قصد الى اشاعة عدم الاستقرار في البلاد ولا بد من مكافحة امثال هؤلاء كما يكافح الارهاب، فمن مسؤولية الدولة ارساء العدل والقانون والنظام حتى يشيع الاستقرار والامن، وان "فلت" من العدل الانساني فانك مع مواجهة مع العدل الرباني، طبعا قد لا تكون مؤمنا بالعدل الرباني وهذا ما جعلك تسير في طريق الظلم والخطأ، ولكن ان نظرت في الكون فانك ستجد هناك انظمة لتصحيح الخطأ، فمثلا هناك نظام في الخلية لتصحيح الطفرات الجينية، وهناك انظمة لتصحيح مسارات الكواكب من خلال الجاذبية، فاعلم بانه سيتم تصحيح الخطأ بشكل او باخر،

رابعا: هناك اناس تعتذر بطريقة خاطئة، فاعتذارها قد يزيد من المشاكل بدل من ان يخفف منها، وهنا بعض الامثلة على الاتذارات الخاطئة وشرحها وشرح البديل:



"أنا اسف ان كنت اخطأت في حقك"
الاعتذار لا بد ان يكون "أنا اسف اني اخطأت في حقك" وليس "اذا كنت"، ليس هناك "اذا"، انت اخطأت ولا بد ان تعرف ذلك،



"أنا اسف انك زعلت"
هذا الاعتذار كأنه يقول للشخص الاخر "انت حساس زيادة عن اللزوم، وانا غير اسف لخطئي ولكن لاثارة حساسيتك"،

"انا اسف، الان اعتذر انت ايضا"
الاعتذار لا بد ان يكون من دون توقع مقابل، سواء اعتذار مقابل او مسامحة، الاعتذار هو اعتراف بالخطأ وطلب العفو، ومن ثم ترك الامور للطرف الاخر لتحديد رد فعله، الاعتذار ليس اسلوبا للتحكم في الاخر، ولكنه سلوك حضاري يدل على المحبة والحرص على استمرار العلاقة بما يرضي الطرفين

د. ماجد عشي
اللوحة: كبرياء
للفنانة التشكيلية السعودية رنا اسكندر

ليست هناك تعليقات: