هناك فروق كثيرة بين الطفولة والنضج، واهمها له علاقة بالاوهام والخيال،
الاطفال عندهم خيال واسع، وفي نفس الوقت معرفتهم بالحياة والواقع محدودة، فهم لا يعرفون اشياء كثيرة عن انفسهم والناس والحياة والكيفية التي تسير بها الامور، ولكن عقولهم الصغيرة البريئة تعيش في الخيال والاوهام الى حد كبير، فعندهم مثلا يمكن للفأر ان يطير ويمكن للنملة ان تهزم الفيل ويمكن لطفل ان يقود العالم الى حياة افضل، وهذا الخيال الجميل هو من علامات الطفولة، ويجد الكبار متعة في الاستماع الى قصص الصغار وخيالهم، وكلنا يعرف ان الطفل يتخيل احيانا اشياء غير سعيدة او مخيفة، كأن يتخيل ان وحشا راقدا تحت السرير او ان مجرما سيأتي للبيت والناس نيام، ويبقى الطفل مستيقظا خائفا يبكي، الخيال له وظائف كثيرة، منها ان تعبر في الخيال عن مشاعرك وان تشبع احتياجاتك في الخيال، فمثلا الجائع يفكر كثيرا في الاكل، لماذا؟ لان الشخص عنده احتياج وان لم يستطع الانسان اشباع احتياجه في الواقع اشبعه في الخيال، ولذلك يتخيل البعض ان الناس تصفق لهم او تطريهم او غيره، فالخيال يحاول ان يشبع احتياجات الانسان الجسدية والنفسية التي لا يمكنه اشباعها في الواقع،
والخيال يساعد الشخص على اجابة اسئلة لا يعرف اجابتها، مثلا ان سألتك لماذا ترعد السماء؟ الان يمكنك ان تخبرني ان السبب هو تيار كهربائي بين السحب والارض وخلخلة في الجو مثلا، وذلك لانك عرفت بعض الاجابات العلمية، فانت لا تحتاج للخيال الان لاجابة هذا السؤال، ولكن لو كنت تعيش قبل مائة عام مثلا لكانت اجابتك مبنية على الخيال، فالناس مثلا قبل الاف السنين كانوا يعتقدون ان هناك صراع بين الالهة وهذا صوت غضبهم وصياحهم!! عندما لا يكون هناك اجابة علمية واضحة يدخل الخيال للاجابة، فهذه طبيعة الانسان، لا يستطيع ان يعيش دون اجابات، حتى لو كانت اوهام، والاطفال كذلك، خيالهم يساعدهم على توهم اجابات، والاطفال عندهم قدرة عجيبة على اجابة اي سؤال بناء على الخيال،
ولكن مع التقدم في العمر، ومع تعلم الانسان عن حقيقة الامور والواقع يقل الخيال، فكلما زادت معرفة الانسان بالواقع قل الخيال، لا يختفي الخيال، ولكن يقل وتصبح له وظائف اخرى، فكل الاكتشافات العلمية بدأت في خيال انسان، وكل المشاريع الاجتماعية والسياسية والهندسية وغيرها بدأت في خيال انسان او اكثر، فالخيال هو المكان الاول لبناء المشاريع وبعد ذلك يبدأ التنفيذ، قد ينجح المشروع وقد يفشل ولكن البداية هي في الخيال، فالقدرة على التخيل تصبح مصدر قوة ان كانت موظفة بالاسلوب الصحيح، فلا يكون الخيال هروبا من الواقع بشكل دائم، نحتاج للخيال للتخفيف من اعباء الحياة، كما نحتاج للخيال في الرومانسية، فالرومانسية هي خليط بين الواقع والخيال، عندما يصبح الواقع كأنه خيال والخيال واقعا، ويختلط الاثنان بشكل جميل،
فعلاقة الانسان بالخيال تمر بمراحل، من الطفولة عندما لا يعرف الانسان الفرق بين الواقع والخيال، الى المراهقة عندما يكون الخيال مكانا لاشباع الاحتياجات، الى الرشد والنضج عندما يصبح الخيال مكانا لبدأ المشاريع وعندما يعرف الانسان كيف يوظف الخيال لدفعه للامام، ويعرف كيف يستخدم الخيال والواقع كفنان لخلق الرومانسية وتجديد الواقع وتطويره، الناضج الراشد يعرف ان يتخيل ما يمكن تحقيقة، ولا يترك لخياله فرصة التحكم فيه، فان تحكم الخيال في الانسان فهذه علامة من علامات الطفولة، الطفولة جميلة ونحتاج لها في حياتنا، ولكن نحتاج ايضا لناضجين في المجتمع، نحتاج الى رجال ونساء "شبعوا" من الطفولة وعزموا الامر على حمل مسؤولية الحياة والبلد والناس الذين في حاجة، هناك اناس كثيرون متقدمون في العمر ولكنهم مازالوا "اطفالا" في تفكيرهم ورغباتهم وتصرفاتهم، وهناك اناس يمضون حياتهم "مراهقين"، وهناك اناس وصلوا مرحلة النضج، فالطفل لابد ان يعيش كطفل، والمراهق كمراهق، والناضج الراشد كناضج راشد، مع الاسف هناك اهالي يحاولون ان يحرموا ابنائهم وبناتهم من حياة الطفولة من خلال رفضهم للطفولة واصرارهم على ان يتصرف الطفل كراشد، حتى ان لجأوا للعنف والتخويف والاهانة، وقد يتصرف الطفل كراشد ارضاء لأهله ولكن بعد سنوات عندما يكبر يشعر بالحرمان ويحاول ان يعيش طفولته او مراهقته في الكبر، فليكن الطفل طفلا والراشد راشدا، والنضج لا يعني ان ترفض الطفولة في نفسك وحب اللعب والمرح الجميل، النضج يعني انك تعرف الواقع وتعرف حسناته وعيوبه، وتعمل ما تستطيع على تحسينه، والخيال يساعدك في عملك، قد يقودك وقد يدفعك الى الامام، ولكن بايجابية، والنضج ان تعي تناقضات الحياة، وتعرف ان التناقضات قد تكون مكملات، فمثلا ان تحتفل بتناقضات الرجل والمرأة ولكن تعرف ايضا ان الرجل والمرأة يكملون بعضهم بعضا، ان ترى تناقضات النهار والليل، ولكن ان تعرف ان الليل يكمل النهار والنهار يكمل الليل، ان تستمع الى دقات عقارب الساعة، ولكن ان تعرف ان الصمت بين دقات الساعة والدقات يكملون بعضهم، المراهق يصر ان يرى الحياة من زاويته هو فقط، والناضج يحاول ان يري الامور من اكثر من زاوية حتى يفهم الناس، الطفل عنده وعي كبير برغباته وانانيته الطفولية الطبيعية في مرحلة الطفولة، والناضج عنده وعي باحتياجات الكثيرين ويفكر كيف يمكنه اشباع اكبر قدر ممكن من الاحتياجات بالاضافة لاحتياجاته،
المشكلة تكون عندما يتصرف الكبار كأطفال او كمراهقين طوال الوقت، هروب من المسؤولية او عدم قدرة على تحملها، مسؤولية الحياة والاختيار والتفكير والقرار، النضج هو ان تعرف ان عليك مسؤولية التفكير والقرار، ومسؤولية اكبر من احتاجاتك وذاتك، مسؤولية امام الله سبحانه ثم امام الناس وامام نفسك، النضج هو ان تعرف انك ستخطئ، وانك ستتعلم من خطأك، وانك ستغير من سلوكك، الناضج لا يهرب من "رؤية نفسه في المرآة"، لانه يريد ان يطور نفسه لا بد من وجود طريقة يعرف بها ان اساء او احسن، فهو لا يخاف من الحقيقة،
اذا النضج هي القدرة على معرفة الحقيقة والتعامل معها وتصبح الحقيقة جزءا من شخصية الانسان دون الهروب الى الخيال، ان تعرف متى تحلم ومتى تعود للواقع،
د. ماجد عشي
هناك تعليق واحد:
مقال رائع
إرسال تعليق