تقديم الاعتذار والعفو عن الناس هو احد الطرق التي يتم بها اصلاح العلاقات بين الناس، فالناس كلها معرضة للخطأ، والخطأ ناتج في كثير من الاحيان عن محدودية علم الانسان، وناتج عن انفعالاته وتعجله وعدم تفكيره في الامور جيدا، واحيانا يكون مقصودا او مدفوعا بانانية او غرور او فهم خاطئ للامور، وارتكاب الخطأ قد يؤثر على العلاقة بين الناس، فأي تصرف له عواقب، والخطأ له عواقب، فقد يجرح الانسان شخصا بكلمة او فعل او قد يظلمه او يؤذيه معنويا او ماديا او جسديا او اجتماعيا او يسلبه حقا بقصد او غير قصد، فما الذي يحدث بعد ذلك؟
هناك اناس يفرحون ان اخطأ انسان في حقهم، فيستغلون الموقف للتعالي الاخلاقي، بمعنى ان يشعروا انهم افضل من ذلك الشخص المخطئ اخلاقيا، وهناك من يستغل هذا الخطأ للانتقام من الشخص لامور اخرى، او للتشهير به، او لابتزازه بشكل او اخر، او لافتعال المعارك، او لمقاطعته، او لاي غرض اخر في نفسه، ولكن في حالات كثيرة يشعر الطرفان بالالم لما حدث بينهما، فالمخطأ يريد العودة عما فعل، والطرف الاخر يريد ان تلتئم جراحه ويستمر في حياته دون ان يكون اسير الحزن والغضب والماضي، والحل هو في الاعتذار والعفو،
عندما بدأت قبل سنوات في الحديث عن اهمية الاعتذار والعفو وجدت مجابهة من اناس غاضبين، وكثير منهم يصرخ ويقول هل تريدني ان اعفو عن من ظلمني؟ هل تريدني ان اعفو عن من اذاني؟ والاجابة نعم .
كثير من الناس يعتقد ان الاخطاء التي ارتكبت في حقه لا تغتفر ولا يمكن العفو عن مرتكبها، ولكن كثير من الناس مستعد للعفو ان وجد من المخطئ اعتذارا حقيقيا وندما عما فعل، الاعتذار ليس بالكلام فقط ولكن بالفعل، الاعتذار الصحيح يحتوي على اعتراف بالخطأ وتحمل للمسؤولية والتزام بالاعراف المشتركة وتوجه لعدم العودة للخطأ مرة اخرى، الاعتذار الصحيح يحتوي على اعتراف بالمسؤولية بتسبيب الالم للشخص الاخر، والمعتذر لا بد ان يكون صادقا ويوضح لماذا فعل ما فعل وان يخبر بالحقيقة كاملة، ففي كثير من الاحيان يكون الناس مستعدون للعفو عن المخطئ ان عرفوا الحقيقة، لماذا فعل ما فعل، ماذا كان يفكر، وما هي القوى التي دفعته لفعلته، فاحيانا الحقيقة توضح ان الشخص المخطئ كان فاهما الامور بشكل مخطئ او واقعا تحت ضغوط قوية او ظروف غير طبيعية،
الاعتذار مفيد لانه خطوة لاصلاح العلاقة، واصلاح العلاقة لا يعني عودتها لما كانت عليه سابقا، اصلاحها يعني انها تتطور الى شكل يخدم الطرفين بشكل افضل، فالخطأ قد يكون فرصة لان يفهم الطرفين بعضهما البعض بشكل افضل وان يخرج الطرفين افضل ما لديهم من اخلاق ونوايا، وهناك اناس يستغلون الخطأ كمناسبة لاخراج اسوء ما في داخلهم من احقاد ورذائل، فخطأ الشخص الاخر لا يسمح ولا يكون مبررا لان ينزل الناس الى الدرك الاسفل من الاخلاق وان يخرجوا الاحقاد والضغائن، ردة فعل الانسان لخطأ الاخرين يمكن ان تعلو به ويمكن ان تنزل به،
ان غياب ثقافة الاعتذار والعفو تحطم المجتمع وتفككه، فالطلاق يزيد وقطع الارحام يزيد والشكاوى في المحاكم والمعارك وحتى الحروب، انظروا جيدا وتمعنوا وستجدون ان غالبية المشاكل سببها خطأ ارتكب وشخص غير قادر على الاعتذار او يرفضه واخر غير قادر على العفو او يرفضه،
الاعتذار لا يعني الضعف، وانما هو تحمل للمسؤولية، هو التزام بالحقيقة، وفيه تخلص من الاحساس بالذنب، وفيه اعادة انتماء للمجتمع وقيمه واخلاقه، المعتذر يعيد الامور الى نصابها ويعطي الشخص الاخر الحق في العفو او عدمه، وفيه عدل، كما ان الاعتذار يساعد الطرف الاخر في ان تشفى جراحه، فهو يعرف من اخطأ عليه ويعرف بالاعتذار ان المه حقيقي وليس خيالا وان الاخرين يرون ما يرى، اذا الاعتذار يساعد على الصحة الاجتماعية والنفسية للمعتذر والمعتذر له،
وكذلك العفو، العفو لا يعني التخلي عن الحقوق او الضعف، فكثير من المجتمعات تتفاخر بقيم الانتقام والثأر وتحسبها قوة ورجولة، وتحسب العفو خنوعا وضعفا واهدارا للحقوق، العفو عن الناس هو اسلوب لتحرير نفسك من سجن الانتقام والضغينة، فكما قال الحكماء سابقا الضغينة والكره ككرة من نار تحرق من يحملها، العفو هو ان تترك الحقد والكره وان تتحرر من التفكير في الانتقام وان توجه طاقاتك لبناء نفسك والى ما ينفعك وينفع مجتمعك، العفو فيه تحرير لطاقاتك ونموك، فيه سمو لك، كل الاديان تشجع على العفو عن الناس، والله غفور رحيم ويمتدح العافين عن الناس، والعقل السليم يدل على ان للعفو فوائد اجتماعية جمة،
والدراسات وجدت ان الناس درجات في نموهم النفسي وفهمهم لموضوع العفو، وهناك سته درجات، وهي من الاقل نموا الى الاعلى:
1. العفو بعد الانتقام: فهم يقولون سأعفو عنك بعد ان انتقم وتشعر انت بالم مشابه لألمي
2. العفو بعد عودة الحقوق: وهم يقولون سأعفو عنك بعد ان ترد لي ما اخذته مني
3. العفو رغبة في التقبل: سأعفو عنك حتى اظهر بمظهر اجتماعي جيد ويحبني الناس
4. العفو التزاما بعرف: سأعفو عنك لأن هذا هو من عرف ديني او بلدي او التقاليد
5. العفو من اجل الصالح الاجتماعي: سأعفو عنك لأن في ذلك مصلحة اجتماعية للمجتمع ككل
6. العفو كقيمة اخلاقية وعقيدة راسخة: ساعفو عنك لأن ذلك من عميق اخلاقي وقيمي وعقيدتي ومحبتي، سأعفو عنك لأن ذلك هو الخير،
العفو لا يعني عدم الالتزام بالحقوق واقامة العدل وحماية الذات وما له قيمة عند الانسان ضد المعتدي، يمكن ان يقوم الانسان بكل ذلك وان يعفو، يعفو عندما يرى ان هناك قيما اخرى ستتحقق بهذا العفو،
وللعفو فوائد نفسية وطبية كثيرة، فالعفو يساعد على التخفيض من السكر وضغط الدم كما يساعد على الصحة عموما، فالدراسات وجدت ان الناس الذين يمارسون العفو ولا يحملون كرها واحقاد وغضبا تكون مناعتهم افضل وصحتهم افضل عموما، كما يساعد العفو على التقليل من الاكتئاب والقلق والضغط النفسي والاحساس بالالم النفسي والجسدي،
الاعتذار والعفو يساعدان على التئام الجراح النفسية والاجتماعية وحتى الجسدية، فقد يساعد العفو في تغيير الاتصالات العصبية في المخ بشكل مفيد نفسيا وجسديا للانسان، فهناك ارتباطات عصبية تتكون بين جزء الذاكرة في المخ وجزء العواطف عند حدوث خطأ او صدمة نفسية ضد الشخص، ولهذا يشعر الشخص بالغضب كلما تذكر ما قيل له او ما حدث، وكثرة اعادة الذكريات هذه يساعد على ترسيخ وتقوية الارتباطات بين هذه الذكريات والعواطف السلبية، والعفو يساعد على تكوين ارتباطات عصبية جديدة تقطع الطريق بين الذاكرة والعاطفة، فيتذكر الانسان ولكن لا ينفعل عاطفيا،
قد يعفو الانسان نتيجة قرار يتخذه، وقد يعفو عندما يرى ان الشخص الاخر لم يكن بالسوء الذي اعتقده فيه، او ان الشخص الاخر كان مخطئا في فهمه، وقد يعفو الانسان اذا وصل في نموه النفسي الى مرحلة فهم فيها ان العفو هل الحل وان فيه مصلحة له وللناس، وان العفو من التواضع،
فهل نعتذر عن اخطائنا و نعفو عن الناس؟
د. ماجد عبدالعزيز عشي